01 أبريل 2009




هكذا يرقصون الفالس مع بشير

.............................................


ليس هناك ما يجعل مخرج إسرائيلي يبحث عن مكانه كجندي في مجزرة صبرا وشاتيلا سوى أنه يريد صناعة فيلم يسرد فيه قصته الشخصية كجندي، وفي حالة آري فولمان فإنه يسعى لأكثر من ذلك؛ استعادة ذاكرته بتحفيز من صور القتل! "فالس مع بشير" فيلم وثائقي مصنوع بطريقة الرسوم المتحركة، وهو فيلم شخصي يحاول فيه المخرج أن يستعيد ذاكرته المفقودة من أيام مشاركته بالحرب على لبنان عام 1982. لأجل ذلك يتحدث فولمان مع رفاقه في الوحدة، يقرّب المشاهد منهم أكثر ما يمكن، يدخلون الأراضي اللبنانية في اليوم الأول على متن دباباتهم وهم يغنون "صباح الخير يا لبنان".. يبدأ الفيلم بحلم كابوس يداهم الجندي بوعز ويرى فيه 26 كلبًا كان قتلهم في القرى اللبنانية.. وهذا ما يحفز فولمان لتذكر أين كان خلال وقوع مذبحة صبرا وشاتيلا، ولسبب ما لا يستطيع التذكر!

من قتل بشير الجميل؟

معاقبة المدنيين الفلسطينيين في المخيمات تحت حجة الانتقام لمقتل بشير الجميل هو عمل إجرامي بالتأكيد، لكن الحقائق تشير أن الفاعل لم يكن فلسطينيًا، فقد اعتقل حبيب الشرتوني بعد يومين فقط من تنفيذ العملية. واعترف الشرتوني الذي أراد محاسبة الرئيس، والمحاسبة في حالة بشير الجميل تعني الحكم بالموت، ولأنّ لبنان في تلك ا

لفترة لم يكن في حالة نظام مركزي تسمح بأن يأخذ القضاء مجراه، ولأن بشير الجميل كان من القوة بحيث لا يمكن محاسبته، فإن الشرتوني المنتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، نفذ حكم الإعدام ببشير الجميل بتفجير شقته الكائنة في الطابق الثالث فوق مقر حزب الكتائب تمامًا في ذات العمارة، معتمدًا بذلك على المادة 274 من قانون العقوبات اللبناني والذي ينص على إعدام كل من يتعامل مع دولة أجنبية ويهدد بذلك الأمن الداخلي للبنان. اعتقل الشرتوني وبقي محتجزًا دون محاكمة في قصر بعبدا حتى بداية التسعينيات.

المسؤولية عن المذبحة

يتساءل فولمان في فيلمه عن دور الجيش الإسرائيلي في المذبحة والتي تبدو وكأنها أسئلة أخلاقية.. ولكنها في الحقيقة تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي أن المليشيات المسيحية، كما يسميها، هي صاحبة المسؤولية الأولى، وما كان بوسع الجيش المحتل لأرض لبنان سوى أن يوقف المذبحة بعد 36 ساعة.

الدور الإسرائيلي في المذبحة كان مثار نقاش لأسباب غير مفهومة، وكأن تنفيذ المذبحة بأيدي القوات اللبنانية كان ممكن الحدوث لولا احتلال لبنان، ولولا حماية ورعاية الجيش الإسرائيلي. فمن هو صاحب الرقم الأعلى في مؤشر القتل؟ لتكن منافسه شريفة، ولتكن لجنة الحكام محايدة، ولن نغضب إن ربحت إسرائيل بجدارة!

في الحقيقة فإن ضحايا الجيش الإسرائيلي من المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين أكثر بكثير من ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا.. وقد كان هدف الغزو الرئيسي للبنان طرد الفلسطينيين، وهو هدف مشترك لإسرائيل وللقوات اللبنانية، مما يفسر التخطيط المشترك بين الجهتين، كما تؤكد شهادات أعضاء هذه القوات في فيلم "مجزرة" إخراج الألمانية مونيكا برجمان.

فيلم مجزرة لمونيكا بيرجمان

قابلت برجمان في فيلمها مجموعة من منفذي مذبحة صبرا وشاتيلا من القوات اللبنانية. يعرض الفيلم صورة بشعة للمذابح ومنفذيها وعلاقتهم بإسرائيل. تبين الشهادات ضلوع إسرائيل بالعملية من مرحلة التدريب وحتى التنفيذ. يتحدث أحدهم عن معسكرات التدريب في حيفا وإيلات لمجموعة من القوات اللبنانية وذلك قبل الحرب بسنوات: "وصلنا إلى حيفا من البحر خلال الظهيرة، نزلنا إلى اليابسة مجموعة وراء مجموعة.. نظرنا حولنا، لم نصدق! نحن في إسرائيل".

في شهادة أخرى يبدو الدور الإسرائيلي في مذبحة صبرا وشاتيلا واضحًا فيصف بداية التنفيذ: "كنا قد وصلنا عند الساعة السادسة قبل المغيب بقليل، وكان إيلي حبيقة يجتمع بضباط يهود في عمارة قريبة، كنا مقتنعين أن الفلسطينيين قتلوا بشير الجميل أردنا أن ننتقم لموته أردنا أن نمحيهم من على وجه الأرض". شخص آخر يقول في شهادته: "كنا في الفوار، إسرائيلي لا زلت أذكره حتى الآن، اسمه شلومو جاء وطلب منا أن نرافقه إلى مخيمي صبرا وشاتيلا"..ضابط آخر في القوات اللبنانية يقول: "في السادس عشر من سبتمبر وصل أمر إلى معسكرنا، أعطيت السلاح والذخيرة لرجالي، سيارات إسرائيلية كانت تحت تصرفنا".

بعد عمليات القتل بحق اللاجئين الفلسطينيين العزل في المخيمات كان على القوات أن تحمل الجثث في هذه الشاحنات وتلقيها بعيدًا. مجموعة أخرى كانت ترمي الجثث في بئر كبيرة، توضع في أكياس، وتُرش فوقها مواد كيمائية، من بعدها تُدفن تحت التراب. تسأل بيرجمان أحدهم: من أين حصلتم على الأكياس؟ يجيب: "اليهود أحضروها معهم.. قالوا لنا ستحتاجون هذا، لقد جهزوا كل شيء، فكرّوا في كل التفاصيل".

فولمان في خدمة الاحتياط

في هذا الفيلم تعود السينما الإسرائيلية وتكرر خطاب الجندي ضحية الحروب التي يقوم بها، والمحرقة النازية بحق اليهود لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان، فهي على الشاشة.. صديق فولمان المحلل النفسي يقول له: "هذه المذبحة مرتبطة عندك بمجزرة أخرى، مجزرة أهلك في محرقة أوشفيتس"، تأكيد جديد على أن الجندي الإسرائيلي ضحية حروبه. يسير فولمان في الطريق ذاتها التي تبرر قيام العسكرية الإسرائيلية بجرائمها، فاللوم في ارتكاب المجازر يقع على تلك المحرقة النازية اللعينة!

في أسطوانة مرفقة يعلّق فولمان: "لا أعتقد أن العقل البشري يمكن أن يصدّق أن هناك أشخاص يقومون بقتل عائلات دون سبب على بعد أمتار منك!" ثم يقول في مكان آخر: "لا أفهم معنى أن تجري حروب وأن يقاتل الناس بعضهم على قطعة من الأرض". ببساطة هذا موقف ضد الحرب.. موقف إنساني جميل ولكنه شديد القبح في حياديته وتنكره، خاصة حين نعرف أن فولمان بقي يخدم في جيش الاحتياط الإسرائيلي ككاتب سيناريو لأفلام الجيش الدعائية حتى قبل سنوات.

الجندي الإسرائيلي ضحية حروبه

أحد الجنود وكانت مهمته التصوير يصف مشهد تموت فيه الأحصنة في بيروت فيأسف: "ما ذنب هذه الأحصنة لتموت في حروب البشر؟" تأكيد آخر على حبوب الحيادية التي يحاول الفيلم تبليعها للمشاهد!

يُضاف فيلم "فالس مع بشير" إلى قائمة الأفلام الإسرائيلية التي تخدم تجميل وجه إسرائيل العدواني. تتبناه وزارة الخارجية الإسرائيلية بحفاوة، ويتفاخر فولمان في لقاءات معه أن سفراء إسرائيل استقبلوه في كل مكان ذهب إليه لعرض الفيلم.

لم يستنكر فولمان العدوان الأخير على غزة خلال اعتلاءه المنصات لتسلم الجوائز.. من الواضح أنه لم يخرج عن دائرة الإجماع على قتل العرب منذ دير ياسين وحتى رفح، ومن هذا فإن "فالس مع بشير" فيلم آخر في المنظومة التي ترى العربي من خلال عدسات الكاميرات وفوهات البنادق. هذه المنظومة التي تبرر الجرائم التي تقوم بها إسرائيل، معتمدة على ذاكرة الجندي المفقودة، وعلى الذاكرة العسكرية المثقوبة، وهذه بلا شك صفات إسرائيلية بامتياز!