19 يناير 2009




الحقيقة غير المعلنة عن عملية ميونخ

..................................................

شاهدت قبل سنوات طويلة فيلم "21 ساعة في ميونخ" والذي أنتج عام 1976 ويحكي قصة عملية نفذها فلسطينيون خلال الألعاب الأولمبية عام 1972 في المدينة الألمانية ميونخ. وفي الفيلم الجديد "ميونخ" يستند المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرغ، في كتابة سيناريو تفاصيل عملية ميونخ وما تبعها من ملاحقة الموساد لعناصر منظمة أيلول الأسود الفلسطينية، إلى كتاب صدر عام 1982 بعنوان "انتقام" للكندي جورج جوناس. ويبدأ سبيلبيرغ الفيلم بالعبارة المكتوبة: "فيلم قائم على أحداث حقيقية". ورغم أنّ الإسرائيليين قد شككوا بمصداقية الكتاب والرواية، فإن الكتاب المذكور والذي يحوي تفاصيل مهمة حول طريقة عمل الموساد، كان المستند الأساس في الفيلم.
لم يرق للمؤسسة الإسرائيلية إنتاج الفيلم استنادًا إلى رواية جوناس فتجندت وسائل الإعلام لمهاجمة سبيلبرغ بحجة أنّ الفيلم يضرّ بدولة إسرائيل، ولم يشفع لسبيلبرغ ماضيه المتضامن مع دولة إسرائيل واليهودية عبر الكثير من افلامه كفيلم "قائمة شيندلر" عن المحرقة النازية.

فيلم آخر عن ميونخ
لم يكن فيلم "21 ساعة في ميونخ" الذي سرد أحداث خطف اللاعبين الإسرائيليين من غرفهم حتى مقتلهم مع منفذي العملية في صالح الفلسطينيين أو الإسرائيليين بقدر ما كان منتقدًا للطريقة التي تعاملت فيها القوات الألمانية مع الخاطفين الذين طالبوا بتحرير السجناء من سجون الاحتلال، مقابل إطلاق سراح الرياضيين الإسرائيليين. لقد تعاون الأمن الألماني مع الأمن الإسرائيلي- ربما بسبب الشعور بالذنب الأبدي تجاه اليهود- من أجل إطلاق سراح الرياضيين دون تقديم أي تنازل، وهي طريقة الإسرائيليين التي تقضي بعدم تقديم أي تنازل للفلسطينيين منفذي العمليات كي لا يشجعهم ذلك على القيام بالمزيد منها. ووقع الأمن الألماني تحت ضغط الإسرائيليين وحاول خديعة منفذي العملية بعدم تلبية مطلبهم بتجهيز طائرة من أجل الإقلاع بها مع المخطوفين إلى إحدى الدول العربية. ونتيجة ذلك قامت القوات الألمانية بفتح النار على يوسف نزال، ومحمد مصالحة، بعكس الرواية الإسرائيلية التي تقول إنّ الفلسطينيين اطلقوا النار من تلقاء انفسهم بعد ان اكتشفوا عدم وجود طيّار في غرفة قيادة المروحيات، وهي القصة التي يتبناها سبيبلبرغ و فيلم "21 ساعة في ميونخ"، وحسب الرواية الفلسطينيية فإن رفاق نزال ومصالحة قاما بقتل عدد من اللاعبين الإسرائيليين، بينما قام الأمن الالماني بقتل الباقين.

وتم اعتقال ثلاثة من منفذي العملية، بينما قتل جميع اللاعبين الإسرائيليين وعددهم (11) لاعبًا. وبعد عدة أشهر اختطف الفلسطينيون طائرة ألمانية وطالبوا بإطلاق صراح المعتقلين الثلاثة، فاستجابت ألمانيا وتم نقلهم إلى ليبيا، وحسب مصادر فلسطينية فإن المخابرات الإلمانية قامت بافتعال خطف الطائرة مع وديع حداد من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لكي تتخلص من المعتقلين الثلاثة كي لا يتم فتح ملف ميونخ من جديد، ويكشف التحقيق عن تواطؤ الأمن الألماني مع الإسرائيليين.

هل سنظل نقتلهم؟
أرادت رئيسة الحكومة الإسرائيلية، غولدا مئير، أن تنتقم من الذين كانوا وراء تنفيذ العملية وتخطيطها، وعمل الموساد على ملاحقة أعضاء خلية أيلول الأسود ووضع قائمة بالمطلوب قتلهم وعلى رأسهم "الأمير الأحمر" علي حسن سلامه، وينجح الموساد فعلا بقتل عدد من المطلوبين ويتمادى في عملياته مما يستدعي أن يطلب الموساد من خلية الموساد العاملة في أوروبا القدوم إلى إسرائيل. وفي نقاشه مع قائده يعبر قائد الخلية عن شعوره من أن قتل الفلسطينيين لا يجدي نفعًا لأنه يجري استبدالهم على الفور بآخرين. ويتساءل: هل سنبقى نقتلهم إلى ما لا نهاية؟ وهل سيجلب هذا السلام حقًا؟ ورغم المعارضة الإسرائيلية للفيلم إلا أنّه قدم أحداث ميونخ وما بعدها من الزاوية الإسرائيلية عبر خلية الموساد وقائدها في أوروبا، ولكن سبيلبرغ لا ينجح في التجرد من تعاطفه مع أبناء جلدته اليهود، فيقدم رجالات الموساد بأفضل صورة ممكنه، فهم يحرصون على أن لا يقتلوا الأطفال، وهم على استعداد لإلغاء عملية قتل محمود الهمشري لأن ابنته ردّت على الهاتف المتفجر عن طريق الخطأ، وحين يدخلون إلى منطقة فردان في بيروت في العاشر من نيسان عام 1973، فإنهم يمتنعون عن قتل ابن محمد النجار أحد القادة الثلاثة؛ محمد يوسف النجار، كمال عدوان وكمال ناصر الذي قتل برصاصات أطلقها عليه إيهود باراك شخصيًا.

تورط الألمان
ما يتجاهله سبيلبيرغ والحكومة الإسرائيلية هو أن تعنت جولدا مائير كان كبيرًا لدرجة أنها قررت عدم الاستجابة للفلسطينيين تحت أي ظرف حتى لو أدى هذا إلى قتل الجميع. فقد نشرت صحيفة "الجيروسلم بوست" الصادرة بالإنجليزية في القدس يوم 16/7/1992، تقريرًا تساءلت فيه عن إمكانية أن لا يكون الرياضيين اللإسرائيليين قد سقطوا بأيدي الفلسطينيين فقط، وأعلنت استغرابها عن امتناع الألمان عن نشر تقارير الطب الشرعي بعد تشريح الجثث، و تساءلت عن موقف الحكومة التي لم تطلب إطلاعها على نتائج التشريح، بالرغم من مطالب عائلات الضحايا بذلك. وفي 23 /7/1992، أكدت جريدة يديعوت أحرنوت أن ثمانية من الرياضيين قتلوا برصاص الألمان، مستندة إلى نسخة من تقرير الأطباء الشرعيين الألمان الذي حرّر بتاريخ 6/9/1972، ويبدو أنّ محامي أهالي الضحايا هم الذين حصلوا عليه فقط!

صورة الفلسطيني أقل أنسانية
يخطيء من يظن أنّ سبيلبرغ أراد أن يوجه النقد إلى إسرائيل، أو أنّه انقلب على هويته اليهودية، لربما أراد توجيه النقد عن طريق النقاش حول إخلاق اليهود، وإثارة نقاش أخلاقي داخل المؤسسة الصهيونية، لكنه في حقيقة الأمر يقلق من صورة اليهودي في العالم، كونه أصبح أكثر وعيًا لهويته اليهودية، فلا يجوز له أن يقف مكتوف الأيدي. لقد أراد سبيلبرغ أن يتصرف بشقاوة، فيقول للساسة في إسرائيل أن ما تقومون به لا يضعكم في موقع أفضل من الفلسطينيين بل قد يساويكم. وهذا يعني، كما يتأتى من الصور النمطية للفلسطينيي في الفيلم، فهو خائف ومرعوب من القتل كما في مشهد إغتيال القادة الثلاثة ناصر، عدوان والنجار. لم يكن الفلسطيني داخل المشهد بل خارجه ما عدا وائل زعيتر الكاتب الفلسطيني ومندوب منظمة التحرير في روما، الذي يقوم بدوره الفنان مكرم خوري الذي يقدم مشهدًا مؤثرًا للحظات ما قبل إطلاق النار عليه، وللحقيقة التاريخية؛ فلم تكن لزعيتر أية علاقة بميونخ سوى تصريح أدلى به في روما قال فيه: "إن الإسرائيليين هم الذين خططوا لقتل الرهائن لتحقيق مكاسب سياسية". بعد زعيتر تصبح عمليات القتل أكثر سهولة، فيبدأ أعضاء فريق الموساد بتننفيذها دون تردد، ويبدأ الفيلم يفقد من قوته، حين يصبح الفلسطيني الآخر مغيب، بينما يقوم قائد الخلية بتحضير الطعام والقلق على زوجته، ولا يجد الفلسطيني في هذا الفيلم سوى مكانًا ليقول بضع كلمات، ويُقتل مباشرة بعد ذلك.

مشهد من الفيلم