23 يناير 2009




ما تبقى من حي وادي الصليب

..................................................
عند المرور مقابل حي وادي الصليب في حيفا، تُشاهد عن بعد تلك البيوت العربية الجميلة والتي تبدو بأسوأ حال، عند دخولي إلى الحي لأجل رؤية البيوت عن قرب، أشعر وكأنني في مدينة أشباح، بعض البيوت مهدمة، والبيوت الصالحة أغلقت نوافذها وأبوابها بالطوب، وقد كتب على مدخل البيوت:"منطقة خطرة، ممنوع الدخول". هذا دير اللاتين، وهذا بيت عائلة جرّار وهذا بيت عبد الرحمن الحج، في الليل يكون التجوال في الحي أكثر خطورة، فهو مكان مثالي للمدمنين على المخدرات واللصوص. فمن الذي يريد أن يسرق ذكريات السكان الأصليين للمكان؟ دخلت إلى الحي وبدأت الرحلة من الماضي.

حيفا العربية
كانت حيفا القديمة قرية للصيادين. عمّرها ظاهر العمر في العام 1761 ولم يبق منها إلا بعض الكنائس وبعض المساجد.. تحولت حيفا إلى بلدية في عام 1875 على يد مصطفى باشا خليل، بيته لا يزال قائمًا إلى اليوم، تحول فيما بعد إلى مسرح وادي الصليب، وبجانبه حمام الباشا الذي تحول إلى ملهى ليلي.
بُني وادي الصليب في فترة العشرينات من القرن العشرين، ويظهر من البيوت الباقية أن الأبنية الجميلة تقع في المنطقة العليا، حيث بنى التجار بيوتهم. بينما يظهر من شكل المباني في المنطقة التحتا، ومن نوع الحجارة وتصميم البيوت أنها كانت لعمال الميناء والعتالين.
وحول سبب تسمية الحي بهذا الاسم يقول د. جوني منصور:"سُمي وادي الصليب بهذا الاسم بسبب تقاطع واديين في مكان واحد، وهو ما يشكل صورة الصليب، وفي رواية أخرى تناقلها الناس، أن راهبة كانت تسكن في دير اللاتين على طرف الوادي، قالت أنها رأت أكثر من مرة صليبًا من نور في السماء. واعتمادًا على الفرضية الأولى، فإن تم تجريد الوادي من بيوته فمن الممكن حينها رؤية التقاء الواديين."

ليلة احتلال حيفا
بدأت الهجرات اليهودية إلى فلسطين في عام 1871، وبدأ اليهود يستوطنون حيفا تدريجيًا. في سنوات الأربعين كانت الخطة لاحتلال حيفا جاهزة في بيت الهاجانا. يقول د. جوني منصور:"سقطت المدينة في الليلة الواقعة بين الواحد والعشرين والثاني والعشرين من نيسان 1948 بيد النفوذ الصهيوني قبل سقوطها الرسمي. فقد بلغ عدد اليهود في ذاك العام قرابة ال70 ألفا، بينما بلغ عدد العرب 65 ألفًا. اليهود استقروا في الأحياء المرتفعة على هضاب وتلال جبل الكرمل، وهذا كان أحد العوامل في سرعة سقوط المقاومة الفلسطينية."
بعد سقوط حيفا في 22 نيسان في أيدي قوات الهاجانا، بدأت القوات اليهودية بإفراغ السكان العرب في سفن تتجه إلى عكا ومن ثم إلى لبنان. يقول د.جوني عن تلك الليلة:"كانت خطة الهجوم تُدعى "المقص" وتأتي عن طريق الهدار نزولاً إلى "برج الأنبياء" والبلد، وكانت المعركة الأخيرة في "اللنبي". أما المعركة الأصعب فكانت في بيت النجادة في الحليصة، كانت قاسية وانتهت بمقتل الكثيرين من الطرفين. طوّق الإنجليز المدينة من الغرب لمنع أهل الطيرة من مساعدة أهل حيفا، وتمركز اليهود في أعلى الجبال، ودحرجوا البراميل التي تحتوي على متفجرات، ودخلوا البيوت ليقتلوا ويهّجروا..."
ويضيف:"إن أهالي حي وادي الصليب وعددهم يقترب من 10 آلاف ساكن معظمهم من العمال. تهجروا إلى مخيم جنين وسوريا، وذلك بسبب الخطة التي قضت بأن تبقى الجهة الشرقية مفتوحة بينما تحاصر القوات اليهودية الحي من الشمال والغرب. فليس أمام السكان في هذه الحالة وهم الأقرب إلى الميناء سوى الرحيل بواسطة السفن أو السير نحو الشرق."

مذكرات لاجيء
"بعد الظهر ستذهب أمي إلى ساحة الحناطير في حيفا فتجلب حنطورًا وتضع البحر فيه، وتحمله إلي، هنا، في المخيم، ستضع البحر وراء منجرة الأستاذ قاسم شريفة. وتتركه لي ساعات لأسبح وأستحمّ ثم تعيده مساء إلى حيفا."
هذه الفقرة مأخوذة من مذكرات الكاتب والشاعر أحمد دحبور، حين كان صبيًا في مخيم قرب مدينة حمص في سوريا، وهي مثال حي على ذاكرة الكثيرين من المهجرين أبناء حيفا. ويحكي أحمد دحبور قصته مع وادي الصليب:"ورثتُ اسم هذا الطفل الذي يبدو أن أمي كانت متعلقة به على نحو غريب - كان اسمه أحمد- وقد سمعتُ أبي مرارًا يقول أن أمي ذهبت في ليلة مجنونة إلى المقبرة لتستخرج فلذة كبدها من التراب. وكان يحاول أن يعزيها عبثاً بكلام من نوع: هذه إرادة الله، أخذ أحمد وسيعطينا أحمد آخر... وقد زاد من لوعة أمي أن أحمد مات محترقاً داخل بيتنا القديم في وادي الصليب. وانتقلت الأسرة بعد ذلك إلى وادي النسناس حيث ولدتُ أنا..."

سكان الحي اليهود ينتفضون
بعد إفراغ الحي من سكانه العرب تم جلب عدد كبير من اليهود اللذين جاؤوا من شمال أفريقيا، أغلبهم من اليهود المغاربة، وكان بين سكان الحي الجدد بعض العائلات الرومانية، ووصل عددهم إلى 15 ألف. هذا العدد الكبير شكل اكتظاظًا سكانيًا. كان بينهم عدد كبير من العاطلين عن العمل، وعانى هؤلاء من الإهمال وعدم اهتمام السلطات الإسرائيلية بهم. وقد كانت الشرطة تستغلهم في مواجهة المظاهرات التي كان يقودها الحزب الشيوعي في سنوات الخمسين، إلا أن وقعت الحادثة التي جعلتهم يدركون أن الاضطهاد والاستغلال يحلّ عليهم أيضًا. ففي عام 1959 وقع الانفجار العنيف الأول في إسرائيل على خلفية طائفية، ولم يكن هذا الانفجار سوى ما سمي فيما بعد اضطرابات وادي الصليب التي دامت عدة أيام.
وقعت الحادثة في الثامن من شهر تموز عام 1959. فقد قام شرطي بإطلاق النار على أحد سكان الحي الذي كان سكرانًا، وأصابه في رجله. على أثر ذلك قام 200 من سكان الحي بالهجوم على رجال الشرطة وحاصروهم في سيارتهم. وفي اليوم التالي بدأت المظاهرات، واقتحمت الشرطة الحي وبدأت باعتقال العشرات من النشطاء بينهم قائد التمرد دافيد بن هاروش.
ضابط الشرطة المسئول في المدينة وصل إلى حارة وادي الصليب وعمل على تهدئة الوضع، لكن أنباء كاذبة عن موت المصاب في اليوم التالي أثارت سكان الحي، فهاجم عدد كبير منهم منطقتي الهدار والكرمل، رموا الحجارة على البيوت، وسرقوا الحوانيت وحرقوا السيارات. في الأيام التالية حدثت اضطرابات مشابهة في طبريا وبئر السبع.
وآثار الأمر الجالية اليهودية في المغرب وأعربوا عن قلقهم من أوضاع المهاجرين إلى إسرائيل، وعبّر ملك المغرب محمد الخامس عن قلقه على رعايا بلده من اليهود المهاجرين إلى إسرائيل!
أقلق الأمر السلطات وتخوفت من انتشار التمرد على مدن أخرى يسكنها اليهود الشرقيين، على أثر ذلك قامت على إحداث بعض الإصلاحات، من بينها دفع مبالغ للعائلات كثيرة الأولاد. وبدأت خطة إفراغ السكان من الحي حتى أن أفرغ كليًا في عام 1962، وهكذا تم إفراغ وادي الصليب من السكان للمرة الثانية بشكل مخطط، ونقل سكان الحي اليهود إلى بيوت بديلة في حيفا. وبقيت بعض العائلات العربية تسكن الحي حتى بداية عقد السبعينات.

مشاريع للفنانين اليهود
كتب الصحافي هشام نفاع في شهر أيار 2004 مقالا حول مناقصة تقدمت بها دائرة أراضي إسرائيل، استهدفت السيطرة على حي وادي الصليب بدعوى "تطوير المنطقة" وإقامة حي للفنانين.
عرضت المناقصة مساحة قدرها 55 دونمًا للبيع. وقامت لجنة التنظيم والبناء المحلية في بلدية حيفا بتبني جزء من هذا المخطط. ويقع هذا الجزء المعروض للبيع بين ثلاثة شوارع هي:ستانتون "شيفات تسيون"، البرج "معاليه هشحرور"، وشارع عمر بن الخطاب.
وحسب مقال نفاع كتب على غلاف كتيب المناقصة."حي للفنانين". وجاء في المناقصة:"تدعو دائرة أراضي إسرائيل بهذا لتقديم عروض للتوقيع على عقد تطوير لثلاث سنوات، والذي يتم في أعقابه توقيع اتفاقية استئجار لـ 98 سنة قابلة للتمديد لـ 98 سنة أخرى للموقع المخصص للبناء، واتفاقية استئجار لمدة 49 سنة قابلة للتمديد لـ 49 سنة أخرى للموقع المخصص للتجارة".
نصّ المخطط بوضوح على أنه سيجري هدم عدد من المباني، أنواع المباني المنوي إقامتها، بيوت سكنية، مكاتب، صالات فنون، وورشات لفنانين. ومن المعروف أن البيوت والأملاك في حي وادي الصليب تدار حسب "قانون أملاك الغائبين". في المخطط الذي تقف من وراءه المناقصة لم يشار إلى إمكانية تعويض أصحاب البيوت العرب الأصليين، بأي شكل من الأشكال.
تابع "مركز عدالة" في حينه الموضوع من خلال مكاتبات واستفسارات قانونية. وجاء على لسان المحامية سهاد بشارة من عدالة:"تجري في إطار هذا القانون الكثير من الصفقات الجملة والتي جرى بحسبها تحويل أملاك من الوصي على أملاك الغائبين إلى طرف ثالث، مثل سلطة التطوير. وينصّ قانون أملاك الغائبين على أن كلّ حقوق الغائب تتحول للوصي. وهو يشكّل حسب هذا الإجراء المالك الوحيد".
وفي سؤال إلى هشام نفاع حول الموضوع بعد مرور سنة قال:"بعد انكشاف المخطط تجمدت العملية، ولم تتخذ البلدية منذ ذلك الوقت إي إجراء بهذا الخصوص".

أحلام رئيس البلدية
في العام 2004 وفي أعقاب زيارة سفير كرواتيا إلى إسرائيل إلى مكتب التجارة والصناعة في حيفا والشمال، طلب رئيس بلدية حيفا يونا ياهف من سفير كرواتيا مساعدته بإحضار مختصين كرواتيين، ليقوموا بإعادة ترميم حي وادي الصليب بناءً على خبرتهم في هذا المجال عقب الحرب التي شهدتها يوغوسلافيا. ويقول ياهف إنه أعجب بالعمل المتقن الذي قام به الكرواتيون لإعادة ترميم بيوت كالتي في وادي الصليب.
الترميم الذي ينوي ياهف البدء به بأي وقت يصبّ هو الآخر في ذات المخطط، الذي يهدف إلى تحويل حي وادي الصليب إلى منطقة خاصة برجال الأعمال ومكاتب في البيوت القريبة من الشوارع الرئيسية التي تحيط بالحي. وتحديد منطقة لبناء "حي الفنانين."
يقول د.منصور في لهجة تشاؤمية:"ما تبقى من مساحة حي وادي الصليب الأصلية هو من 15- 20 بالمائة في أحسن الأحوال. وتجري حاليًا عملية هدم مستمرة لبيوت الحي، لأن البلدية تنوي بيع البيوت وتأجيرها لأصحاب مصالح وتجّار."

حوار مفتوح
خلال جولتي في وادي الصليب دخلت أحد البيوت المهجورة ورأيت أن الباب الذي لا زال مفتوحًا، لم يفض سوى إلى غرفتين، كانت النوافذ مسدودة بالطوب وكذلك الغرف الأخرى. حين خرجت من البيت صادفتني امرأة يهودية عجوز:
- ماذا تفعل هنا؟
- بيت جميل، أليس خسارة أن تبقى هذه البيوت مهملة هكذا؟
- أنا أسكن هنا في البيت المجاور... منذ سبعين سنة، الآن يبنون فوق بيتي، جاء أحدهم واشترى السطح ويبني الآن مكاتب، لقد اشترى السطح من العميدار.
- هل كل البيوت للعميدار؟
- نعم فإن كنت تريد بيت فيمكنك أن تذهب لهناك وتشتري.
- وبعدها يمكنني هدم هذا البيت والبناء مكانه بيت جديد؟
- لا يمكنك هدمه. عليك تصليحه وإبقاءه، يريدون الحفاظ على طابع الحي.
- بيوت جميله فعلا، هل كل واحد يستطيع أن يذهب ويشتري؟
- نعم كل واحد شرط أن يكون يهودي، لا يبيعون للعرب، أنت عربي أم يهودي؟
- لماذا لا يبيعون للعرب؟
- لأن العرب حين يدخلون للبيت لا يخرجون منه بعد ذلك، إن كنت يهوديًا يمكنك شراء أي بيت تريد. لقد جاء هذا الملعون الذي يملك الدولارات، واشترى سطح بيتي، لقد ارتكبت غلطه ولم أشتريه، ولكن ما العمل لم أكن أملك المال.
- إذن أنت سبعين عامًا هنا?
- آه قبل قيام الدولة..
- هل تذكرين العرب الذين كانوا هنا؟
- كلهم هربوا إلى لبنان.
- وهل تتذكرين تمرد اليهود المغاربة بقيادة دافيد بن هاروش؟
- نعم، لكن لم يبق أحدًا هنا، لا يريد أحد أن يسكن في بيوت قديمه كهذه.

أسئلة إلى البلدية
توجهت إلى بلدية حيفا بالسؤال حول مشروع حي الفنانين وهل لا يزال قائمًا، وما هي الخطط المستقبلية التي تنوي البلدية القيام بها في الحي؟
جاء الرد الخطي بتوقيع من مكتب الناطق الرسمي باسم البلدية على النحو الآتي:
بات من الواضح بالنسبة للبلدية أن مشرع حي الفنانين غير قابل للتحقيق وذلك لعدم وجود فنانين قادرين على الالتزام بالمتطلبات المادية، والالتزام بالمحافظة على الأبنية القديمة.
تقوم البلدية منذ عشر سنوات بالعمل على خطة بديلة بالاشتراك مع دائرة أراضي إسرائيل، وقد أنجزنا من خلال هذه الخطة تسويق 65% من أراضي الحي وبيوته لجهات خاصة.

هل نعلن وفاة حي وادي الصليب العربي؟
حسب هذه المعطيات فإن توقع د.جوني منصور يبدو قريبًا جدًا لواقع الأمر، الذي بموجبه لن يبقى شيئًا حي وادي الصليب بشكله الحالي فسيتم ترميمه والحفاظ عليه بصورة تامة! بحيث لا يجد أحمد دحبور، أو أمثاله من الحالمين بالعودة إلى حيفا العربية ما يزورونه.فبيت عائلة جرار المعروفة سيتحول إلى متحف، وباقي البيوت ستتحول إلى مكاتب على الأغلب. دير اللاتين وحده سيبقى، على ما يبدو، ذكرى، من الحي الذي كان.