25 يناير 2009




فيلم "شتات": قصص الهجرة والتهجير
..................................


تدور أحداث فيلم "شتات" في لندن حين يلتحق المخرج الإسرائيلي بزوجته التي تدرس للقب الدكتوراة، ويفكر في تصوير فيلم شخصي عن زوجته وحياة العائلة التي تعيش في المهجر، وتتطور الفكرة ليدخل أشخاص آخرين في الفيلم من بينهم إسرائيليون يعيشون في لندن: بوعز الذي كان مراسل جريدة معاريف في لندن، جلعاد الموسيقي الذي أصيب بصدمة في حرب لبنان ونزح إلى لندن، حوي طالبة جامعية تزوجت من إنكليزي. فلسطينيين نزحوا من المنفى إلى المنفى: خالد أبن عائلة فلسطينية من أحد المخيمات في غزة، ويعود أصل عائلته المهجّرة إلى قرية الفلوجة التي تقوم على أنقاضها كريات جات، أمجد الذي ولد في الخيرية الواقعة قرب تل أبيب والمدفونة تحت أكبر تجمع نفايات في إسرائيل. إضافة إلى تيم العالم البريطاني الذي يقوم بتجارب حول انقسام الخلايا.
يقدم آشر ده-بنطوليله طلاليم، فيلمه التسجيليي "شتات" إنتاج مشترك لإسرائيل، بريطانيا وألمانيا، كعمل سينمائي تسجيلي جديد وفي تاريخه السينمائي 54 فيلمًا، وأهم ما يقدمه الفيلم الذي يتعقب شخوصه خلال أربع سنوات هي مدة تصويره، هو ذلك الأثر الذي يحدثه في نفس مخرجه، فيصل به إلى مثل هذا التغيير، في الوقت الذي ينوي فيه المخرج التأثير في جموع المشاهدين، لكنّه يعود إلى اعتناق اسمه السابق، ويأخذ موقفًا من الأيدولوجية الصهيونية.

عن أشر ده-بنطوليلة طلاليم
ولد المخرج في طنجة في المغرب باسم أشر ده-بنطوليله، وحين قدم لإسرائيل مع عائلته غير اسمه إلى آشر طلليم تماثلا مع أهم أسس الصهيونية التي تحاول التنكر لفترة الشتات واستبدال الإسم الأصلي بإسم عبري، وبهذا الإسم يعرفه الجمهور الإسرائيلي كأحد المخرجين البارزين، لكنه ويعود بعد أربعين عاما لأسمه الأول بعد أن زار طنجة مسقط رأسه، وقد ترك وطنه الاول المغرب صغيرًا، ولكنه يكتشف أنه ترك طنجة طوعًا، بينما هناك من ترك أرضه رغمًا عنه.
هذا اللقاء بين المخرج وباقي شخصيات الفيلم لا يمكن أن يحدث في أي مكان سوى لندن حسب قول المخرج، وبالتحديد لا يمكن أن يحدث داخل حدود إسرائيل أو الأراضي الفلسطينية المحتلة، يدرك أشر ده-بنطوليله أن لقاءة بخالد طه وأمجد زيادة بهذا الشكل المحايد والمتعادل، لا يمكن له أن يحدث لولا أن الشتات (المهجر)، هو وسيلة اللقاء، وعبر الفيلم يحاول المخرج أن يفهم هذه الكلمة التي ترافقه حيث ذهب، "الشتات". ويشعر أشر ده-بنطوليله أن خالد يعيده إلى نفسه حين يسأله: ألم تكن أنت أيضًا تريد العودة إلى وطنك المغرب؟ خالد الذي يعمل كخادم في جامعة لندنية يمثل الشتات الفلسطيني الآني مقابل الشتات اليهودي الذي يمتد بحسب الرواية الصهيونية إلى عمق التاريخ، وهكذا يتمحور العمل التسجيلي "شتات" حول تجميع الخيوط ما بين طرفي الصراع، ومركز الأحداث هو لندن، يرصد المخرج منها طنجة وبولندا وفلسطين المهجرة، لكي يمتحن قسوة الشتات وما يفعله من حنين في نفوس البشر.

أسئله إلى الآخر، أسئله إلى الذات
يوجه مخرج العمل الأسئلة لخالد وصديقه أمجد في اللحظة التي يوجه الأسئلة ذاتها لنفسه: لماذا تريدون العودة؟ ما الذي يربطكم إلى ذلك المكان؟ ما هي قصة رحيلكم عن أرضكم؟ ومع استمرار هذا الحوار يزداد كلا الطرفين خالد وآشر إقترابًا أحدهم من الآخر، تتسبب في ذلك مصداقية خالد في ما يقول وما يحس، وحساسية المخرج تجاه موضوع الشتات الذي يعاني منه شخصيًا، ويكاد يعترف بإكتشاف تأثيره الكبير عليه لأول مرة، وهو الذي كان يظن أن الشتات يحدث خارج أرض إسرائيل التوراتية ليكتشف أنه يحدث داخلها، وهو المهجّر عن طنجة المغربية يحلم في العودة إلى ربوعها، وخالد المهجر إلى لندن يحلم بالعودة إلى أرض فلسطين. هكذا تتقاطع خطوط الرحلات فوق حوض المتوسط وآوروبا، وتبدأ الرحلة الأولى في البحث عن مواطن الشتات، وتكون إلى طنجة.

رحلات الكاميرا
تنطلق الرحلة الأولى في محاولة لاسترجاع الذات، فيسافر المخرج مع أخيه إلى طنجة مسقط رأسه في المغرب، يعود إلى البيت الذي ولد فيه ويحاول استرجاع ذاكرة أيام الطفولة، وقد ترك والده طنجة هربًا تحت جنح الظلام إلى إسرائيل، وقد أحس بالخطر بكونه أحد اليهود المتنفذين في مدينة طنجة، وفي البيت الذي تركته عائلة ده-بنطوليله، تسمح العائلة المغربية المسلمة للمخرج وأخيه بالدخول إلى البيت ليستعيدا ذاكرة الطفولة. تدور الكاميرا في أرجاء البيت ونكتشف أنها تصور الأرضية وأشكال البلاط في صور عشوائية غير مرتبة، وفي نهاية المشهد يخبرنا صوت المخرج أنه أخطأ بالضغط على زر الكاميرا، فكان يشغلها ويطفئها بصورة معكوسة، فكانت النتيجة أن تدور الكاميرا في اللحظات التي من المفروض أن لا تقوم بالتصوير، وبالعكس، تلك اللحظات الميتة من المشاهد التي من المفترض أن لا يتم تصويرها.


في رحلة ثانية إلى بولندا يقوم بها المخرج وزوجته إلى قبر جدها الرابي إليميليخ ملجينسك، الذي يحجّ إلى قبره آلاف اليهود في مناسبة سنوية لأجل الحصول على تبريكاته. تتحدث الزوجة عن جدها بأنه كان منعزلا عن الناس كي يعيش النفي الحقيقي الذي عاشه اليهود عبر التاريخ، وتجد في بولندا وطنها الأول حيث تدفن رفات جدها الذي أصبح بنظر الكثيرين قديسًا، وتشعر هي بالفخر لأجل ذلك.
الرحلة الثالثة هي رحلة إبنته الكبرى من زواجه الأول إلى والدها في لندن، وهي طالبة في الجامعة العبرية في القدس، وفي الحال تعبر عن خوفها من التفجيرات التي يقوم بها الفلسطينيون في الباصات، وتتوجس من العودة، ثم تتهم والدها أنه يناقش بطريقة تختلف عنها في إسرائيل، وقد لاحظت التغيير الذي طرأ عليه.

رحلة العودة الرمزية
في الرحلة الرابعة، يقرر آشر ده-بنطوليله أنه قادم إلى الأرض المسلوبة، فيقوم برحلة العودة الرمزية نيابة عن خالد وأمجد ويزور مجمع النفايات "خيرية" مستذكرًا بلدة أمجد، ويزور كريات جات ويحاول أن يبحث عن رائحة لبيت خالد، فيقوم آشر ده-بنطوليله بفعل لا يستطيع صديقية الفلسطينيين أن يفعلاه بفعل ظروف اللجوء، إنه لشعور شديد الغرابة أن تكون هذه الزيارة لإسرائيل نيابة عن سكانها الأصليين، وليست زيارة للمكان الذي عاش فيه.
يقوم آشر ده-بنطوليله طلليم بالبحث في المحيط عن أناس آخرين يساعدونه في الإجابة عن بعض الأسئلة، فيصادق العالم البريطاني تيم هانت، ويحاول أن يبحث عن طريق العلم عن حل للصراع، وذلك من خلال تجارب يجريها العالم عبر إنقسام جزيئات الخلايا، وفي نهاية التجربة التي تجرى لأغراض علميه ويريدها المخرج كنظرية علمية لحل الصراع، ينطق العالم البريطاني بجملة تعبر عن مأساوية الصراع على أرض فلسطين وذلك بجملة واحدة: "لا يمكن أن تحيا الخلايا في سلام، فلا بد أن تأكل أحدها الأخرى، هذا هو مصير الصراع في الشرق الأوسط، لا بد أن يدمر أحدكم الآخر!". خلال تصوير أحد المشاهد يعرف تيم هانت عبر مكالمة هاتفية أنه حصل على جائزة نوبل في الطب، وفي لحظة إنفعالية لا يبدو عليه أنه يصدق نبأ حصولة على الجائزة.
خلال تنقل الكاميرا ما بين الأماكن والوجوه، تسير حركة العلاقات الإنسانية في اتجاه المركز، ويؤدي الفيلم غرضه الدرامي، فخالد الذي يحكي قصة النكبة وتهجير الأرض ينتقل من عدم التعاون مع المخرج الإسرائيلي إلى أن تنشأ في نهاية الفيلم علاقة خاصة بينه وبين عائلة المخرج، وبالأخص عبر المشهد الأخير من الفيلم حين يلاعب خالد الطفل الصغير إبن العائلة، ويصل المخرج من نقطة البداية بالبحث في حيثيات غربته المؤقتة في لندن، إلى ملاحقة مفهوم الشتات إلى فهم الشتات الفلسطيني، وحتى التماثل معه، ويصل في نهاية الفيلم إلى قرار رفض العودة للسكن في إسرائيل، الدولة التي لا زالت تحرم اللاجئين الفلسطينيين من بيوتهم .

حول الفيلم
يقول المخرج عن الفيلم: "أردت أن اصنع فيلمًا من غير أن أجادل الخصم الفلسطيني، لتكن هذه فرصة لكي نستمع ولو لمرة واحده لما يقوله الفلسطينيون دون أن نجادلهم بمصداقية ما يقولون". يبدو أن هذا الفيلم الذي حاول اعتماد الحيادية، وفي بعض الأحيان التعاطف مع الضحية، فشل في أن يؤثر في المجتمع الإسرائيلي الذي لا زال غير مهيء لتقبل ما يناقض الرواية الصهيونية.