24 يناير 2009


إحداثيات الرغبة والدهشة مسرحية جدارية
..................................................


كُتبت "جداريه"، النص الشعري الذي تستند عليه المسرحية، في لحظات كان فيها الشاعر محمود درويش يرقد في المستشفى بعد خضوعه لعملية جراحية في القلب، وهي نص شعري يتكلم عن تجربة الموت القريب: "لقد استبد بي هاجس النهاية منذ أدركت أن الموت النهائي هو موت اللغة إذ خيل إلي بفعل التخدير أنني أعرف الكلمات، وأعجز عن النطق بها فكتبت على ورق الطبيب..." يقول محمود درويش. ويضيف حول كتابته للجدارية: "حين كتبت هذه القصيدة طيلة عام 1999، استبد بي هاجس نهاية أخرى وهي أنني لن أحيا لأكتب عملاً آخر، لذلك سميته "جداريه"، لأنه قد يكون عملي الأخير الذي يلخص تجربتي في الكتابة، ولأنه نشيد مديح للحياة، وما دمت قد عشت مرة أخرى فإن علي أن أتمرد على كتابي هذا، وأن أحب الحياة أكثر وأن أحبكم أكثر"
شاهدت مسرحية "جداريه" على خشبة مسرح الميدان في مدينة حيفا مرتين، وكان الممثل والمخرج مكرم خوري في خلال تولي لإدارة المسرح الوطني الفلسطيني في القدس في سنوات 2002 و 2003، وبعد قراءته للنص الشعري "جداريه" للشاعر محمود درويش، قد بدأ يفكر في تحويلها إلى مسرحية من إنتاج المسرح الوطني الفلسطيني، وقام بإبلاغ الشاعر محمود درويش لأجل الحصول على الموافقة، ويكون العرض بالنسبة له غير متوقع، ولكنه يوافق.
يقول مكرم خوري: " كانت الرؤية أن يقدم النص الشعري على لسان ثلاث شخوص: الأنا، هو والأناي، وهي مؤنث الأنا، وبعد توكيل الممثل والمخرج خليفة ناطور بالقيام بالإعداد المسرحي، جاء النص على لسان "الأناة" و"هو"..".
ويقول مكرم خوري عن علاقته الشخصية بمحمود درويش: " كنت أراه في أواخر سنوات الخمسين يسير من قرية الجديدة إلى مدرسته في كفر ياسيف وهو يقرأ في كتاب على طول الطريق، كان يكبرني بثلاث سنوات، وزادت علاقتي به في الفترة التي كان فيها تحت الإقامة الجبرية، في بيته الكائن في شارع عباس في حيفا، فكنا نحن شبان المسرح الناهض في حينه أواخر الستينات، نأتي إليه لنقوم بتسليته".
بدأت التحضيرات للعمل عندما قام مكرم خوري باختيار المخرج أمير نزار زعبي ليقوم بإخراج المسرحية، وكان قد شاهده في مسرح القصبة في مدينة رام الله في عرض "قصص تحت الاحتلال"، ونزار أمير زعبي هو مخرج شاب لم يبلغ الثلاثين بعد، لا يزال في بداية مشواره في عالم الإخراج المسرحي.

الإعداد المسرحي
بدأ الحوار بين المجموعة وبدأت جلسات العمل على فترات متقطعة استمرت شهورًا طويلة، وكان خليفة ناطور قد جهز الإعداد المسرحي للنص الشعري بعد قراءات متكررة للنص، ويمكن اعتبار أن ما قام به خليفة ناطور في إعداده المسرحي للنص الشعري للجدارية يعيد إلى الإعداد المسرحي شأنه ومهنيته، بعد أن كان مصابًا لفترة طويلة بداء الاستسهال، والاقتباس المشوه.
ويقول خليفة ناطور أن النص الشعري كان يدله على الشخصيات، وما كان عليه سوى اتخاذ توجه محدد يعمل على أساسه لتخرج الشخصيات وتقول نصها، ويرى أن التوجه الصحيح نحو العمل يخلق إعدادًا أساسيًا سليمًا، فاستطاع أن يخلق شخصيات غير موجودة في النص بتاتًا، كمجموعة المسافرين... وأهم ما في الأمر فصل الشاعر المتحدث إلى شخصيتين الأمر الذي يوحيه النص حين يخاطب الشاعر الموت: "يا ثالث الاثنين...".
التمعن في النص المسرحي بعد إعداده قياسًا إلى النص الأصلي للجدارية، يجد أن العمل الذي قام به الإعداد هو عمل صاحب رؤية واعية، وحرص طاقم العمل أن يكون الشاعر على إطلاع على كل ما يجري وحتى التدقيق في كيفية نطق أواخر الكلمات، تسكينًا أم تحريكًا، من ناحيته أبدى الشاعر درويش مرونة بالغة في إعطاء طاقم العمل كامل الحرية حول كيفية الإعداد، مشترطًا عدم التغيير والزيادة في النص الأصلي، مع إعطاء المُعد حرية الاستغناء عن جزء من النص الشعري قد يكون غير مناسبًا الحدث الدرامي والفعل المسرحي.
في حقيقة الأمر، فإنه وبعد الإعداد المسرحي الأول، جرى التعاون المشترك بين المعدّ والمخرج بشكل استثنائي، فقد كان للمخرج أمير نزار زعبي، رؤية إعدادية ساهمت في أن يأخذ الإعداد شكله النهائي. وكان الحوار بين المعد والمخرج يدور على أساس التوجه نحو الحدث الدرامي والفعل المسرحي، وهكذا فقد ساهم كلا الطرفين في وظيفة الآخر.
ارتكز العمل المسرحي في "جداريه" على ثلاث أضلاع رئيسية: مكرم خوري المدير الفني للمسرحي الوطني الفلسطيني، وهو صاحب فكرة تحويل "جداريه" إلى المسرح، وهو العنيد المصمم دون تردد على خوض التجربة. خليفة ناطور صاحب التوجه والرؤية الإعدادية المميزة، والتي تتسم بمهنية عالية، والمسكون بالحب لشعر محمود درويش. أمير نزار زعبي المخرج الذي يملك عينًا حساسة، ويملك مهنية محايدة، الذي حاول في ذات الوقت عدم الوقوع تحت التأثيرات التاريخية للنص الدرويشي من منطلق التوجه المهني الصرف، الأمر الذي ساعد في نجاح العمل.
كان لا بد من الوثوق بشخص يستطيع أن يعمل دون حساسية وحب مبالغ به، ويستطيع أن يلتزم بقدر كبير من الحيادية، وإلا لما كانت النتيجة على ما هي عليه. وهكذا جري العمل بين أضلاع المثلث المحكوم برغبة أصيلة، مقابل الشاعر كنقطة ارتكاز خارج المساحة.

إشكالية النص الشعري في المسرحية
لغة محمود درويش، هذه اللغة السارقة، لغة تسرق قارئها من نفسه وتأخذه كلمة كلمة، تنزلق عيناه على الأحرف بسرعة الكهرباء، لغة لا تعرف الفواصل أو النقاط، يلهث القارئ خلفها كأنثى عصية على الاقتناص، وكأنها لغة لزجة مدهونة بالزيت.
"احفظ اسمك جيدا /لا تختلف معه على حرف/ كن صديقا لاسمك الأفقي /لا تعبأ برايات القبائل /جربه مع الأحياء والموتى/ دربه على النطق الصحيح/اكتبه على أحدى صخور الكهف".
في العمل المسرحي "جداريه" كان لا بد من القص في اللحم واختيار ما يناسب للعمل المسرحي، لكن الأمر لم يكن بالعمل السهل فستزول حينها وحدة النص الشعري وسيتم الاستغناء عن بعض الصور الجميلة، ولولا المهنية المحايدة لما كان بالإمكان فعل ذلك. ففي الوقت الذي لم تكتب فيه الجدارية للمسرح ولم يفكر شاعرنا أن تكون عملاً مسرحيًا، رغم كونها مونولوج طويل يحمل الكثير من العناصر المسرحية، إلا أن القرابة العضوية بين المسرح والشعر منذ عصر المسرح الديني الطقسي القديم، والمسرح اليوناني مرورًا بمسرح شكسبير الشعري، ومسرح أحمد شوقي الموزون أوصلت طاقم العمل إلى إيجاد الصيغة المسرحية المناسبة، خاصة أن الموت الذي يشكل هاجسًا لدى الشاعر هو مضمون إنساني بحت بعيد عن كونه فلسطينيًا، في ذات الوقت الذي يحمل الكثير من الرموز والدلالات: "سأصير يوما فكرة، لا سيف يحملها /إلى الأرض اليباب، ولا كتاب /كأنها مطر على جبل تصدع من/ تفتح عشبة/ لا القوة انتصرت/ ولا العدل الشريد ".
وتجيء خيارات المخرج ليكون قول النص الشعري بطريقة تختلف عمّا تعودنا عليه في إلقاء الشعر أو عن الطريقة التي يلقي فيها محمود درويش شعره، ويتطرف الخيار في قول " أناه" للشعر في سرعة درامية إيقاعية، يقدمها خليفة ناطور الشاب القلق من قدوم الموت، المتحضر له، المنفعل النزق، وهو بذلك يعطي بعدًا دراميًا لطريقة القول التي يؤديها "هو" مكرم خوري الشق الآخر، وهو على فراش الموت، الذي يبدو أقل هياجًا. هذه الخيارات الإخراجية تفضي بنا إلى السؤال: هل أحضرت "جداريه المسرحية" شعر محمود درويش إلى المسرح أم أن المسرح قد ذهب إلى شعر الجدارية؟ والجواب على هذا السؤال هو بالتحديد التوجه الإخراجي والإعدادي الذي اختاره المخرج وطاقم العمل.

مونولوج الموت، حوار مع الصمت
في مشهد "موعد مع الموت" يقف "أناه" يخاطب الموت في مونولوج يؤديه خليفة ناطور: "يا موت انتظر يا موت/ حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحتي/ لتكون صيادًا شريفًا / لا يصيد الظبي قرب النبع". في هذا المشهد يختزل الشاعر وكذا يفعل المخرج النص الشعري في مواجهة أكيدة مع الموت، تتطلب بالضرورة فعل الخطاب أو المونولوج الذي لا بد فيه من التوجه إلى الموت مباشرة، ويكون الموت في هذه الحالة شريكًا مسرحيًا صامتًا، يزيد من قسوة الفعل المسرحي ويزيده ثقلاً دراميًا، فترتعد له حنجرة الشاب الذي لا يزال متمسكًا بحبه للحياة، لأن الموت في حالته المجازية على الأقل، هو موت اللغة التي لأجلها يعيش الشاعر، فيخاطب الموت:"...اجلس/ على الكرسي! ضع أدوات صيدك/ تحت نافذتي. وعلق فوق باب البيت/ سلسلة المفاتيح الثقيلة! "
وعن هذا يقول الشاعر محمود درويش: "صراع هذه القصيدة مع تجربة موت شخص لم يكن في حاجة إلى الإشارة الواضحة، إلى أن حياتنا العامة هي صراع جماعي ضد موت الهوية وموت المعنى، وأن انتصارا الشعر على الموت المجازي منذ كان الشعر ربما يحمل دلالة قريبة أو بعيدة إلى قيامتنا الجديدة"
وفي الجداريه :" كان الموت أبطأ/كان أوضح. كان هدنة عابرين/ على مصب النهر.أما الآن،/فالزر الإلكتروني يعمل وحده./لا قاتل يصغي إلى قتلي.ولا يتلو/وصيته شهيد".

خيارات وجماليات المشهدية السينمائية
يحسب لمخرج "جداريه" قدرته المضاعفة في نقل النص الشعري إلى المسرح، وفي نقل المسرح إلى السينما، ففي مشاهد الساحل السوري، عناة وأنكيدو والحصادون، تحتلنا تلك المشهدية السينمائية الساحرة، ويفاجئنا خيال المخرج، وتكون تلك المشاهد غير المتوقعة هي أجمل ما في العرض المسرحي، ويكون أجمل ما في العرض حقًا هو المشهد غير المتوقع!
خيار إخراجي آخر هو الحقيبة التي يحملها " أناه" و"هو" فهل هو المسافر إلى الموت؟ أم الفلسطيني المشرد؟ أم ببساطه القادم إلى المستشفى لأجل إجراء عملية جراحية؟ وبعدها تصبح الحقائب خمس أخرى، تحمل كل واحدة عالمًا آخر داخلها، تضيئه كهرباء ساكنة.
المشهدية الجميلة في مشهد عناة التي تدخل من طرف المسرح وهي تنشد:"هل كلّ هذا السحر لي وحدي/ أما من شاعر عندي/يقاسمني فراغ التخت في مجدي؟ ويقطف من سياج أنوثتي ما فاض من وردي...؟"
وفي خيار آخر يقطّع المخرج العرض المسرحي إلى جزأين: كامل المسرحية حتى المونولوج الأخير الذي يقوله مكرم خوري مواجهًا الجمهور في نقلة واضحة، تنقلنا إلى نوع مسرحي آخر وتكون بذلك الجزء الثاني والأخير من العرض، فهل كان هذا خيارًا واعيًا؟ أمير نزار زعبي، مخرج مسرحي يملك أدوات جديدة مختلفة، قادر على إدهاشنا، وقادر على رمي الأسئلة الصعبة بوجهنا.


"جدارية" علامة مميزة.
"جداريه" من العلامات المميزة في مسرح الداخل الفلسطيني، هي مسرح مختلف، ذلك لأنها تتحدث عن الإنسان أينما كان، فهي تجتاز الهم الفلسطيني الخاص في لغة محمود درويش المهجّر من بلدة البروة في سن ست سنوات إلى مواجهة الموت الشخصية، إنها عمل شعري.
أهم ما في هذا العمل كونه فلسطينيًا لا يحكي عن فلسطين المنكوبة بقدر ما يحكي عن الإنسان الذي سكن الشاعر في لحظات المواجهة مع الموت، وبذلك تكون جداريه حدثًا واعيًا كتبت بوعي غائب وصنعت بوعي مُدرك. يمكن لجدارية المسرحية أن ترسم إحداثيات الجدار الفاصل بين ما كانه الشعر والمسرح الفلسطيني، وما سيكونه...فهي تحمل إحداثيات الرغبة والدهشة، إحداثيات الشعر والمسرح، نقطتا الثبات والارتكاز في ثقافة الفلسطيني المعاصر.